رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَِ **** رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ****رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ****رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلْ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ * رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ


نقاش وتعاليق

أولاً: مواضيع مختلفة للتعاليق
هذه بعض المواضيع المطروحة للنقاش العام، نأمل أن تساهموا في إثرائها بكل موضوعية
الموضوع الأول: الغش في الامتحانات كمظهر من مظاهر انتشار اللامعيارية في المجتمع





حاولت دراسات كثيرة حول ظاهرة الغش فى الامتحانات، معرفة العلاقة بين بعض العوامل الذاتية للطالب، وبين لجوئه الى الغش. ونقترح هنا استراتيجية مختلفة تعتمد على التفتيش عن الأسباب في داخل البناء الاجتماعي بصفة عامة، ونسق القيم فيه بصفة خاصة . ويتلخص الفرض العام الذي يقود هذه الورقة على أن تغييرات قد تحدث على نسق القيم، تؤدي الى أن تصير بعض أنماط السلوك التي كانت غير مقبولة، ويجرمها القانون عادية في نظر بعض الأفراد الذين تعنيهم . عندما يتقدم مثل هذا الفرض العام مشروعا بحثيا، يوجه الباحث اهتمامه نحو أركان البناء الاجتماعي، منقبا عن مؤشرات تدعم وجود حالة اللامعيارية أولا ، وقياس مدى انتشارها ثانيا ، وخصائص هذا الانتشار ثالثا. وتعكس اللامعيارية حالة من حالات اختلال القيم والمعايير على مستوى المجتمع بكافة فئاته ونظمه ، ومؤسساته الاجتماعية . ويصبح نمط من أنماط السلوك المنحرف كالغش مثلا، لا يمثل مشكلة فردية تنم عن اختلال النسق القيمي والأخلاقي للطالب. بل يصير هذا السلوك انعكاسا لما يدور في البيئة الاجتماعية من ممارسات، لا يتقيد أصحابها بالشروط اللازم توفرها في الوسائل لتجعلها سبلا قانونية ومشروعة للوصول الى الأهداف . مع أن نسق القيم السائد في المجتمع هو الذي يتحكم في نسق القيم السائد على مستوى الفرد، إلا أن نسق الأخير قد يتأثر بعوامل خارجية كثيرة .
ويفترض بالنسبة للموضوع الحالي، أن الذي سيسلك سبيلا نتيجة لتأثره بخصائص في البيئة المحلية تضغط باتجاه اللامعيارية، لا بد وأنه تطورت في داخل نسقه القيمي حالة من اللامعيارية . وسنطلق على هذه الحالة الخاصة بالفرد ( الأنوميا ). وسنفترض وجود علاقة بين الأنوميا ( اللامعيارية على مستوى الفرد) وبين سلوك الغش . ونفترض أن هذه العلاقة ليست مباشرة، وانما تمر عبر متغيرين آخرين هما تجاوز الطالب عن الغش فى الامتحان ( درجة تأييده للسير في هذا الطريق ) ، وعدم اهتمامه العمل الأكاديمي . وعليه فحالة التجاوز عن الغش، وحالة عدم الاهتمام بالعمل الأكاديمي ستؤديان الى سلوك الغش نفسه. وإذا كانت ظاهرة الغش في الامتحانات مشكلة أخلاقية، فقد تسهم فيها بعض الظروف الاجتماعية المحيطة بالطلاب ، فما هي يا تري تلك العوامل التي تتعلق بالطلاب أنفسهم، فتجعلهم يتجاوزون عن سلوك الغش، ومن ثم ينخرطون في ممارسته ؟ وما علاقة كل هذا بدرجة اهتمام الطالب بالتحصيل العلمي، وحرصه على التزود بمعرفة علمية على درجة عالية من الجودة ، وحرصه على التفوق العلمي بجدارة ، ومقارنته لتحصيله بتحصيل الآخرين في مجتمعه أولا، وفي خارج مجتمعه ثانيا بعد أن أصبح العالم من حيث سهولة الاتصالات والوقوف على ما يجري في بقية أنحاء المعمورة كالقرية؟
حول مفهوم (الأنومي) اللامعيارية تعني كلمة اللامعيارية المشتقة من الكلمة اللاتينية "Anomie" ، انعدام القانون أو انعدام الخطة، أو انعدام الثقة أو تعني الشك . وقد أوردت بعض القواميس الكلمـة على شكل "Anomie" لتعني حالة من الإضطراب، أو اختلال النظام، أو الشك، أو عدم اليقيــن، أو الحياة بدون قانون . وعندما يستعملها المتخصصون في العلوم الاجتماعية فانهم يشيرون الى خاصية تتعلق بالبناء الإجتماعي، أو في أحد الأنظمة الاجتماية التي يتركب منها، وليست لحالة ذهنية. فهي تعبير عن انهيار المعايير الإجتماعية التي تحكم السلوك ، كما تعبر أيضاً عن ضعف التماسك الإجتماعي . وعندما تنتـشـر حالة اللامعيارية بشكل واسع بين أعضاء مجتمع من المجتمعات ، تفقد القواعد التـــي تحكم السلوك فيه مفعولها أو قوتها .(Clinard , 1971 : 226) ويري بعض الباحثين أن اللامعيارية تعني انعدام القاعدة ، أو انعدام أو ضعف المعيار ( إسكندر ، 1988: 296-297 ) . والمعيار شرط ضروري لتنسيق قيم المجتمع وبيان علاقتها ببعضها من حيث أهميتها التراتيبية . وقد يضعف المعيار أو يزول لأي سبب من الأسباب . فالتغير التكنولوجي السريع يضع ضغوطات على الثقافة، لتطوير قيم جديدة، يستخدمها الأفراد في عملية التوافق مع منتجات التكنولوجيا التي سيستخدمونها . وكلما فاقت سرعة التغير التكنولوجي سرعة تطوير قيم ثقافية جديدة كلما ظهرت حالة من حالات ضعف أو زوال المعيار.
ويقارن البعض بين حالة فقدان المعايير، وحالة التماسك الاجتماعي، حيث تعتبران على طرفي نقيض . فالتماسك الإجتماعي يعتبر حالة من التكامل الأيديولوجي الجماعي، بينما حالة فقدان المعايير هي حالة من الخلط واللبس ، وانعدام الأمن ، وحينئذ تكون التصورات الجماعية في حالة انحلال وتدهور ( سامية جابر، 1990: 53 ) . ولإنتشار اللامعيارية في مجتمع من المجتمعات عدة مؤشرات تدل عليها ، كما أنها تنتشر بدرجات أو معدلات مختلفة، تتدرج من بسيطة الى عالية . فمثلاً ، يعتبر معدل اللامعيارية عاليا في مجتمع، إذا تفادى فيه أعضاء المجتمع رجالا ونساء التردد على أماكن عامة، لخوفهم من التعرض لهجمات من آخريـن، مستخدمين العنف لفرض حالات معينة عليهم . وكذلك إذا اضطرت فئة من فئات المجتمع، مثل النساء أو الأطفال أو كبار السن، الى تجنب التردد على أماكن عامة لخوفهم من المضايقات، المتمثلة في اعتراض طريقهم، وأسماعهم كلمات بذيئة ، أو لمسهم في أماكن من الجسم، لا يجوز لغريب أن يلمسهم فيها وغيرها من الأفعال، التي تقع في هذا المجال . وقد يكون معدل اللامعايرية في المجتمع منخفضا أو عاليا.
ويعتبر معدل اللامعيارية عاليا على مستوى النظام الإجتماعي، عندما يسود المجتمع نقص في الإجماع على المعايير ، وعندما تسوده علاقات تقوم على الشك، وعدم تصديق الآخرين، وتدني حالة الأمن والأمان . وإذا وصل معدل اللامعيارية الى المستوى الذي لا يستطيع الناس أن يتـفـقـوا بدرجة كافية، في أن يكون سلوك الآخرين مطابقا للمعايير المشروعة، فان هذا يعني أن أزمة اللامعيارية هي أزمة اجتماعية، وليست أزمة تخص جماعة محدودة من أعضاء المجتمع .
توظيفات اللامعيارية في العلوم الاجتماعية يعتبر دوركايم من أهم علماء الاجتماع، الذين وظفوا هذا المفهوم وروجوا له في أدبيات العلوم الاجتماعية . استخدمه أول مرة في كتابه "تقسيم العمل في المجتمع" الذي صدر عام 1893 ، ليشير الى حالة من ضعف المعايير بين أعضاء جماعة، أو في المجتمع . وهي خاصية تتعلق بالبناء الاجتماعي أو الثقافي ، ولا تعبر عن خاصية على مستوى الفرد .(Merton , 1957 : 132)فاللامعيارية تعبر عن اختلال التركيب، الذي يؤدي إلى حالة من حالات غياب النظام أو القانون ، وإلى افتقار مفهوم السلوك إلى المعيار، أو القاعدة التي يمكن بها، وبناء عليها قياس أو تمييز السلوك السوي، من السلوك غير السوي . وعندما تعم اللامعيارية مجتمعاً ما ، فإن العلاقات والقيم الإجتماعية ينتابها الصراع والتناقض ، وتصبح المتطلبات والواجبات الإجتماعية التي يصادفها الفرد في حياته اليومية متناقضة . فاللامعيارية بهذا المعنى تخص البناء الإجتماعي، وتظهر من خلال العلاقات الإجتماعية التي تعوزها القيم الثقافية .
تصور دوركايم أن اللامعيارية ( الأنومي ) نتيجة من نتائج تقسيم العمل في المجتمع الحديث . ففي العصور القديمة، اعتاد العامل العيش جنبا الى جنب مع سيده ، وكان يؤدى أعماله فى نفس المحل أو المؤسسة . لقد اشترك العامل وسيده فى تكويـن نفس نوع العمل أو الشركــة، وكانا يمارسان أسلوبا واحداً فى الحياة . ولكن مع بداية القرن الخامس عشر بدأت الأمور تتغير . فلم تعد الدورة المهنية تؤلف تنظيماً مشتركاً ، حيث أصبحت مقصورة على أرباب العمل، الذين يقررون بمفردهم كافة الأمور . ومنذ ذلك الوقت حدثت هوة عميقة، فصلت بين العمال وأرباب العمل . وبحدوث هذه الهوة والانفصال، نشبت الخلافات التي لا حصر لها (Merton,1957 : 134 ). أهمل تقسيم العمل - في رأي دوركايم - عندما ظهر أول مرة مواهب الأفراد ، ولم يؤد الى تقوية التضامن بينهم ، لأن النشاط الفعال لكل عامل غير كاف ، ولأن العامل لم يطور الوعي بالمشاركة في مشروع عام ، وقد رافق تقسيم العمل التخصص في العلوم، كما أدى تقسيم العمل إلى إحداث هوة بين العامل ورب العمل . وقد أدى هذا كله إلى إضعاف التضامن الجمعي بين الأفراد ، ومن ثم فقد أصبح المجتمع عاجزاً عن توفير المعايير الإجتماعية، التي تمكنه من تحديد نهايات الفعل. كما رافق تقسيم العمل ارتفاع في مستوى طموحات الأفراد . إذ أصبح مستوى الطموح بدون سقف . وأصبح الجميع يطمح لتحقيــق مختلف الأهداف، بغض النظر عن العقبات ومرات الفشل .
مع أن هذا المفهوم اقترحه دوركايم، إلا أنه لم ينتشر في أدبيات علم الاجتماع وبقية العلوم الاجتماعية، إلا بعد أن كتب ميرتون مقالته المشهورة، في نهاية العقد الثالث من هذا القرن وسماها ( البناء الاجتماعي والأنومي ) ، ثم طورها وحافظ على عنوانها ونشرها في نهاية العقد الرابع ( Merton,1957:131-160 ). وجد دوركايم المفهوم مناسبا لشرح نوع من أنواع الانتحار، بدأ ينتشر في عهده، ولم يجد نظرية صالحة لتفسيره . لكن ميرتون في مقالته المشهورة، والتي حظيت باهتمام كبير، وسع من استخدامات المفهوم بحيث أصبح صالحا لتفسير أنواع كثيرة من أنماط السلوك المنحرف، بما في ذلك الأمراض النفسية، والإدمان بأنواعه، ومختلف جرائم الكبار، وجنوح
الأحداث . وضح ميرتون أن الثقافة السائدة، تحدد الأهداف العامة، التي يجب أن يسعى الجميع لتحقيقها . كما تتضمن نفس الثقافة الطرق التي تعتبرها مقبولة، وتتمشى والمعايير الثقافية، والتي على الجميع الاختيار من بينها للوصول الى الأهداف العامة . لكن يوجد وفى أي مكان وفي كل زمان أفراد يعملون للوصول الى الأهداف العامة، بطرق تختلف كثيرا عن تلك التي حددتها نفس الثقافة . والمهم في الأمر أن ميرتون اقترح أن السبب الرئيسي وراء اختيار بعض الأفراد السبل غير المعيارية للوصول الى الأهداف العامة يرجع لخاصية البناء الاجتماعي . أي كأنه وضع المسئولية على المجتمع في المقام الأول، وليس على الفرد مرتكب السلوك المنحرف . اهتم ميرتون بشرح النماذج المختلفة للسلوك المنحرف، في إطار المجتمع الكبير، وبخاصة بنائه الإجتماعي . وقد وظف اللامعيارية، وحاول توضيح علاقتها بعدد من المفاهيم الإجتماعية الهامة، مثل البناءين الثقافي والاجتماعي ، والأهداف الثقافية والوسائل المعيارية، والعلاقات الأولية والعلاقات الثانوية الخ.. لذلك أحدث مفهوم اللامعيارية في ثوبه الجديد مناقشة حية في علم الإجتماع ، وفي مجال العلوم الإجتماعية عموماً .
أكد ميرتون على أن أنماط السلوك المنحرف، عبارة عن استجابة عادية للمواقف الإجتماعية السائدة . يتعرض الفرد لضغوط اجتماعية، تقوده في اتجاه السلوك المنحرف ، ويتعرض لضغوط اجتماعية أخرى، تقوده في اتجاه السلوك السوي، أي الذي يتطابق والقوانين السائدة . ومن هذه الزاوية جاءت مساهمة ميرتون مختلفة عن تلك التي بدأها دوركايم . فهذا الأخير يقترح أن الانحراف ينشأ من محاولة الأفراد لتحقيق الرغبات الفطرية، كالطموحات عبر وسائل غير متوفرة ، بينما يقول ميرتون، أن الطبيعة البيولوجية ليست بذات أهمية في شرح الانحراف. فالانحراف من وجهة نظر ميرتون ينشأ من عدم قدرة الفرد على تحقيق تلك الطموحات المتضمنة في البناء الإجتماعي . فيبحث عن أي وسيلة ممكنة بما في ذلك غير الشرعية.
وفي معرض حديثه لشرح الأنومي والسلوك المنحرف ، لم يركز ميرتون على الفرد ، ولكنه سلط الضوء على البناء الإجتماعي، وما فيه من نظم اجتماعية، تعمل على أن يتوزع نشاط الفرد عشوائيا بين الأهداف الثقافيـة، والوسائل المعياريـة المؤديـة إلى تحقيق تلك الأهداف . ولأغراض تحليلية قسم "ميرتون" الواقع الإجتماعي إلى بناء ثقافي أو ثقافة ، وإلى بناء إجتماعي أو مجتمع . ويضم البناء الثقافي مجموعة
القيم المعيارية المنظمة، التي تحكم السلوك والتي تعتبر مألوفة بالنسبة لأعضاء المجتمع أو الجماعة المحددة . أما البناء الإجتماعي فيتألف من مجموعة نظم، تضم المعايير الرسمية التي تحدد وتنظم الصيغ والسبل والأساليب المقبولة للوصول إلى تلك الأهداف . وهو بناء يمثل مجموعة العلاقات الإجتماعية المتعارف عليها، والتي يفترض أن تكون واضحة لأعضاء المجتمع ، أو لأعضاء جماعة اجتماعية في داخله (Merton , 1957 : 135 - 140) . كما يري ميرتون أن العلاقة بين الأهداف الثقافية والمعايير الرسمية، ليست بالضرورة قوية في جميع الحالات ، كما قد لا تكون منسجمة مع بعضها البعض . لأن التأكيد الثقافي على أهداف معينة، قد يكون مستقلا تماماً عن درجة التأكيد على الوسائل الرسمية. فهناك مثلاً الكثير من الأهداف تتصل اتصالا مباشرا بالنجاح المادي، والمؤدي الى الحصول على المال والى تراكم الثروة . لكن الكثيرين من أعضاء المجتمع من بين الذين يؤمنون بنفس هذه الأهداف، ويتمنون الوصول إليها ، لا يستطيعون الدخول في منافسة عادلة مع آخرين لهم إمكانات خاصة ترفع من درجة احتمال نجاحهم . ويرى أن التوازن الفعلي بين البناء الثقافي والبناء الإجتماعي، لا يمكن تحقيقه إلا إذا عمل جميع أعضاء المجتمع على تحقيق رغباتهم، من خلال التقيد بالأهداف الثقافية والوسائل الرسمية . ولذلك فإن (الأنومي ) أو اللامعيارية تعبر عن إنهيار في البناء الثقافي، الذي يظهر بوجه خاص، عندما يكون هناك تناقض بين المعايير الثقافية، وبين الأهداف والقدرات البنائية الإجتماعية لأفراد الجماعة التي تتواءم معها .فغياب التوحد بين البناءين يتيح الفرصة أمام تزايد مظاهر الغموض بالنسبة لما يمكن أن يسمى بالمعايير الثقافية. فالأنومي أو اللامعيارية إذاً هي حالة إجتماعية ، تنتج عن تأكيد زائد على هدف معين - أياً كان هذا الهدف - وفي وقت لا تتوافر فيه قنوات شرعية لبلوغ هذا الهدف . فالصراع بين الأهداف الثقافية، وإمكانية استخدام الوسائل النظامية يقود الى هذه الحالة . فالمبالغة في التأكيد على الأهداف الثقافية، إذا صاحبها شيء من عدم العناية بتوفير الوسائل التي نبغي اتباعها لبلوغ تلك الأهداف والتأكيد على أهميتها، سيؤدى الى انتشار وتنامي حالة اللامعيارية. فالمبالغة في التأكيد مثلا على أعضاء فريق رياضي لكسب مباراة رياضية، إذا لم تصاحبها أوامر وتعليمات واضحة بضرورة الالتزام بقواعد اللعبة، قد يتيح الفرصة أمام بعض الرياضيين الى اللجوء لوسائل غير قانونية، ولكنها تحقق الفوز.
إلا أن ميرتون لم يقل بأن انتشار حالة اللامعيارية، تساوى حالة غياب كامل للمعايير وللقيم . فمثل هذه الحالة الأخيرة إذا سادت تعني لا محالة انتهاء الحياة الاجتماعية . إذ لا يوجد مجتمع بشري بدون قيم ومعايير . كما لا تعني اللامعيارية حالة يغيب فيها وعي الناس للقيم والمعايير السائدة في مجتمعهم . فحتى الذين يتبعون السبل غير الشرعيــــة، يعرفون تماما أنها غير شرعية . فاللامعيارية تشير الى حالة تسود بين جماعة يكثر فيها عدد الذين يفشلون في تحقيق الأهداف الثقافية بوسائل غير مقبولة اجتماعيا، بسبب نقص تلك الوسائل في البيئة الإجتماعية، وصعوبة الوصول إليها، نتيجة اختلال التوازن البنائي بين الأهداف والوسائل .
مما سبق يتبين أن اللامعيارية كما يراها ميرتون، تنتج عن عجز بعض الأفراد عن تحقيق الأهداف التي تقرها الثقافة السائدة بالوسائل المشروعة ، وذلك لعدم توفر المراكز الاجتماعية المناسبة، والتي تمكن أولئك الأفراد من تحقيق تلك الأهداف بالسبل المقررة . أي أن الأنومي تنشأ من التناقض بين الدعوة إلى تحقيق أهداف وغايات مقررة ثقافياً ، وبين وسائل تؤدي إلى تحقيق تلك الأهداف والغايات، ولكنها محددة إجتماعياً ـ أي تتقيد بالبناء الاجتماعي. ولذلك فإن مصدر الأنومي كما يراه ميرتون، يختلف عن المصدر الذي يراه دوركايم، الذي يقول بأن اللامعياريـــة تظهر عندما يعجز المجتمع عن تنظيم الكيفية التي يتـم بها تحقيق الرغبات، وإشباع الغرائـز والنزوات الطبيعيـــة لدى مختلف الأفراد . بينما يرى ميرتون أن أغلب هذه الرغبات والغرائز التي تتطلب التحقيق والإشباع، ليست بالضرورة رغبات وغرائز طبيعية ، وإنما هي عبارة عن إغراءات وإستمالات، تنتجها وتفرزها الثقافة السائدة . لذلك تتطور حالة الأنومي من البيئة أو البناء الإجتماعي، عندما توضع حدود أو حواجز أمام بعض فئات المجتمع، تحول دون تحقيق هذه الرغبات، وتحد من إشباعها لهذه الغرائز ، أو تجعلها على الأقل صعبة التحقيق والمنال، بدرجة غير متكافئة لدى جميع الأفراد والجماعات ، مما يحتم على بعض الفئات إتباع وسائل غيـر مشروعـة .
فاللامعيارية تصبح بهذا، وسيلة بعض الأفراد للتكيف مع الثقافة الفرعية الخاصة بفئة من فئات المجتمع . ثقافة فرعية تشجع المنتمين اليها على احتقار القيم والمعايير الخاصة بالثقافة العامة، لتحل محلها قيم ومعايير مخالفة – أي خلق ظروف ملائمة لانتشار حالة اللامعيارية .
وقد أضاف عالم الاجتماع ألبرت كوهين تطويراً لنظرية اللامعيارية . فمن خلال اهتمامه بجنوح الأحداث، اقترح أن الحدث المنتمي إلى أي أقلية من الأقليات الأمريكية المغبونة، إنما يصبو إلى تحقيق الغايات والأهداف التي تحددها الثقافة السائدة في المجتمع . بيد أنه لا يستطع تحقيق أي شئ منها بالوسائل التي تقررها هذه الثقافة ، وذلك لعدم حصوله على قسط كاف من التعليم، ومن الخبرات اللازمة ، ومن التنشئة الاجتماعية، والتأهيل في داخل الأسرة، وفي المحيط الذي يشمل المنزل والبيئة السكنية، ليتمكن من التنافس مع الآخرين، الذين يملكون مقومات التنافس. ولذلك فإن الحل الوحيد كما يراه كوهين لأبناء هذه الأقليات، كي تتغلب على مشكلاتها، وتحقق بعضاً من أهدافها ، لا يتم إلا بتآزرها ، حيث يمكن لها أن تتوافق، وأن تقف صفاً واحداً ، وتكون لنفسها بذلك ثقافة مستقلة عن الثقافة السائدة، وتصبح أقلية، ذات ثقافة فرعية متحدة الأهداف، بحيث تضمن لنفسها البقاء، والعيش في مستويات غيــر تلك التـي أرادتها لها الأغلبية. إن تكاثف أفراد الفئات المغلوبة مع بعضهم، يمكنهم من التكيف مع الثقافة السائدة، بأية وسيلة، ومن تحقيق أهدافهم أو على الأقل بعضها Cohen, 1955:50-62) ). وأسهم كل من كلوارد وأوهلين فى تطوير نظرية اللامعيارية . فقد انطلق الباحثان من أن للفرد مكانا فى البناءات المشروعة، والبناءات غير المشروعة . كما ربطا بين نمو الثقافة الفرعية التي تشجع على انحراف الصغار، وبين إدراكهم لتلك الوسائل المنحرفة أو غير المشروعة فى بيئتهم الاجتماعية . وأشارا الى أن السلوك المنحرف، ينتشر فى تلك المناطق، التى لا تشجب فيها تصرفات الصغار غير المقبولة اجتماعيا . كما أوضحا أن الشخص لا يمارس الانحراف، إلا إذا كانت له خبرة بالانحراف وصلة بالمنحرفين . ويقترحان أن البناءات الاجتماعية التى توفر الفرص غير المشروعة، ليست فى متناول كل الأفراد . فبعض الأفراد الذين يعجزون عن استخدام الوسائل المشروعة لتحقيق أهدافهم ، قد يعجزون أيضا فى بعض الأحيان عن استخدام الوسائل غير المشروعة لتحقيق تلك الأهداف . وقد أطلقا على هذه المرحلة التى يصل إليها مثل هؤلاء الأشخاص، مرحلة الفشل المزدوج، وذهبا الى أن البيئة الاجتماعية، تؤثر فى طبيعة الاستجابة المنحرفة، بغض النظر عن الدافع أو الوضع الاجتماعي، أو العمر أو الجنس، أو المستوى الاجتماعي والاقتصادي، لأولئك المشاركين فى الثقافة الفرعية للجانحين الصغار. كما يتشجع الفرد، ويندفع نحو القيام بأعمال غير قانونية، عندما يجد الدعم والتأييد من بيئته الاجتماعية . ذلك أن ارتباط حاملي القيم الثقافية والقيم المنحرفة ببعضهم بعضا شرط أساسي لتطوير الأفعال المنحرفة، والتعود عليها ولتصبح مستقرة فى البيئة الاجتماعية (Cloward and Ohlin,1960 : 124-143 ).
وهكذا أضاف هذان الباحثان بعداً جديداً لنظرية الانحراف. فإعاقة الوصول إلى السبل المعيارية لتحقيق أهداف المجتمع، أمر ضروري للإنحراف غير أنه ليس كافياً . فلابد من أن تكون الطرق غير المشروعة، في متناول أولئك الذين قد يختارون إستخدامها. وهذه في متناول بعض أفراد الفئات الاجتماعية، وليست في متناول الكل . وهذا يفسر - جزئياً على الأقل - لماذا لا ينحرف كل صغير من أبناء هذه الفئات .
نسق القيم والتغير الاجتماعي وحالة اللامعيارية مرت المجتمعات الحديثة وما تزال بالكثير من فترات للتغير الاجتماعي . شمل هذا التغير نسق البناء الاجتماعي، كما شمل أيضا النسق الثقافي . فثقافة المجتمع ليست محصنة ضد التغير والتبدل . لكن يلاحظ أن التغير في الجوانب
المادية للثقافة، والتي يطلق عليها البعض مفهوم الحضارة، هو أسرع بكثير من التغير في الجوانب غير المادية للثقافة. والتغير يحدث بسبب عوامل داخلية، وهو تغير من الداخل. أو بسبب عوامل خارجية ، والتغير قد يكون محدودا بحيث لا يكاد يلاحظ ، وقد يكون على نطاق واسع، ويشمل جوانـب متعددة . وفي الوقت الحاضر أصبح التغير واسعا وشاملا وسريعا . لكن الذي يعنينا هنا هو تغير الجانب القيمي في الثقافة .
وتغير القيم وخصوصا في الوقت الحاضر، يحدث بسبب تأثير ثقافات أخرى، أو بسبب محاولة التلاؤم مع مظاهر التغير المادي. فالتطور التقني مثلا يتطلب تغييرا في القيم . فنتاج الصناعة كالسيارة مثلا مواد جامدة . لكن هذه المواد الجامدة عندما تستخدم، فإنها ستستخدم فى مجالات واسعة . وهذه المجالات ستطال العلاقات الاجتماعية. وهذه لا يمكن أن تبقى على حالها الذي كانت عليه قبل التوسع في استخدام السيارة. ومع الفوائد الكثيرة لانتشار السيارة، إلا أنها ستؤدي الى تغيير العلاقات التقليدية بين الجنسين . تغييرات قد ينظر لها المنتمون لجيل الكبار، كنوع من التمرد أو حتى من فساد الأخلاق. وما قيل عن السيارة يمكن أن يقال عن جميع منتجات الصناعة .
أقترن التغير الاجتماعي في بلدان كثيرة بالانتشار الواسع للتعليم ، وارتفاع مستوى الخدمات الصحية والسكنية ، والتوسع في مشاريع الزراعة والصناعة ، وتطوير قطاع الاتصالات والمواصلات، وانتشار مجتمع الاستهلاك. وصاحب هذا التغير سيادة القيم المادية، وارتفاع مستوى الطموحات ، والرغبة الشديدة لتحقيق النجاح المادي والمعنوي. وهذا يقود الى ظهور قيم جديدة، وتحوير قيم قديمة، للتعامل مع أنماط سلوكية جديدة ، والتحويرات التي حدثت على قيم قديمة . وقد يأخذ التغير في مجال القيم شكلا سريعا. وقد تفوق سرعته مقدرة تكيف الفرد . وبعبارة أخرى قد يفشل بعض أعضاء المجتمع في مسايرة نمط التغير في نسق القيم. إذ لا يستجيب الجميع لتغير القيم بنفس الكيفية . بل أن البعض يحاول التمادي في التمسك بالقديم ، بينما تلجأ الغالبية الى خلط القديم بالجديد. وقد يقود كل هذا الى أن يفشل البعض في التعرف على القيم المناسبة . وهنا تضطرب الأمور، وتظهر على السطح أشكال كثيرة من أنماط السلوك، التي تبدو وكأنها صادرة عن حالة من حالات
الارتباك والاضطراب في التمييز بين المشروع والممنوع . وقد يلجأ البعض الى ممارسة كل ما يرونه كفيلا بتحقيق طموحاتهم وأهدافهم، دون التفكير كثيرا فيما إذا كان هذا يتعارض والقيم التي كانت سائدة وتلك التي تحض على حسن الخلق .
رافقت مراحل التغير الاجتماعي وخصوصا السريع، هجرة واسعة من الريف في اتجاه المدينة. وفي حالات كثيرة لم تكن المدينة مستعدة لكمية المهاجرين الجدد . فلهؤلاء مطالب متنوعة، خصوصا في مختلف مجالات الخدمات، كالسكن والتعليم، والصحة والمواصلات. وتقود الهجرة على نطاق واسع الى مشكلات كثيرة، مثل الازدحام الشديد في الطرق، وفي السكن وفي المدارس ، وارتفاع معدلات الجريمة وجنوح الأحداث ، وارتفاع معدلات المشكلات النفسية ومظاهر سوء التكيف وغيرها. وقاد هذا بطريق مباشر أو غير مباشر الى ضعف التقاليد والأعراف ، وضعف الارتباط الاجتماعي على مستوى الأسرة، وعلى مستوى الجماعة الأكبر ، وضعف أو تلاشي دور الكبار، في المحافظة على استمرار احترام القيم والمعايير( التير ، 1992 : 213 - 221 ) .
ساعدت الهجرة من الريف على نمو المدن بسرعة وعلى أن تصبح خلال فترة زمنية محدودة مدنا كبيرة. وفي المدينة الكبيرة يلتقي الأفراد من مختلف مناطق البلد الواحد، ومن مختلف بقاع الأرض. إذ تتميز المدينة الكبيرة في الوقت الحاضر، بغض النظر عن موقعها، بتعدد خلفيات سكانها العرقية والثقافية والاقتصادية . بالطبع وجدت بلدان وضعت قوانين صارمة على تحرك السكان في الداخل ، ومنعت أو نظمت تواجد الناس من جنسيات أخرى. لكن المدينة الكبيرة العادية هي مدينة مفتوحة. مدينة تلتقي فيها ثقافات مختلفة، وتتعدد فيها الثقافات الفرعية. لذلك تتيح المدينة الكبيرة فرصة نادرة لالتقاء ثقافات مختلفة ، وأن تدخل هذه في علاقات متنوعة. وتتميز الحياة الحضرية بتعقد العلاقات الاجتماعية ، وضعف الروابط الشخصية ، وتعدد مناسبات الصراع الثقافي ، وسيادة العلاقات المبنية على تبادل المصالح الشخصية . كما تضعف في المدينة وسائل الضبط الاجتماعي غير الرسمي . وهي تلك الوسائل التي تعارف عليها الناس، وتوارثوها عبر الأجيال ، ولا يتحكم فيها قانون مكتوب. وهي الوسائل التي نظمت على مر العصور العلاقات بين الناس، في القرية وفي ما شابهها من التجمعات البشرية الصغيرة . تلك التجمعات التي يعرف الجميع بعضهم بعضا فيها، وتسود بينهم العلاقات الاجتماعية، المبنية على التفاعل الاجتماعي وجها لوجه. في مثل هذه التجمعات تنخفض معدلات الجريمة والانحراف ، وترتفع مناسبات التضامن والتعاضد. ولا يعني هذا أن الأمور في المدينة تركت بدون رقابة . لكن الرقابة أخذت الشكل الرسمي ، فسادت وسائل الضبط الاجتماعي الرسمية . وهي وسائل تنظمها قوانين، وتراقبها أجهزة متخصصة. لكن مثل هذه الوسائل مهما بلغت إمكاناتها، فإنها تعجز عن مراقبة الجميع مراقبة دقيقة . لذلك تكثر حالات الخروج عن القوانين. وتتولى الأجهزة الرسمية متابعة المخالفين . لكن ما تتمكن هذه الأجهزة من رصده هو جزء من كل . لذلك تظل نسبة من الأفعال المنحرفة خارج نطاق الرصد الرسمي.
ولقد أثر التغير الاجتماعي وخصوصا السريع، على وظائف الأسرة . حيث خرجت الأم هي الأخرى الى خارج المنزل لتنخرط في سوق العمل. وطالت ساعات عمل الرجل، وتباعد مقر عمله عن مقر سكناه . انشغل الوالدان بالجري وراء كسب المال، لمواجهة أعباء الحياة في المدينة ـ في المجتمع الحديث، وأعباء الحياة في المجتمع الحديث كثيرة . وهي أعباء آنية، وأخرى لها علاقة بالمستقبل . وجميعها في حاجة الى المال . ضعفت رقابة الأب، كما ضعفت رقابة الأم ، وضعف بذلك دورهما في التربية، وفي التنشئة الاجتماعية ، وفي تعليم الصغار القيم الثقافية الرئيسة . أخذت مؤسسات اجتماعية أخرى بعض وظائف الأسرة . ملأت هذه المؤسسات الفراغ الذي نتج عندما تخلت الأسرة عن بعض وظائفها . وبعض هذه المؤسسات من بين تلك التي تتواجد في المجتمع الحديث، وتتولى بعض مهام التنشئة الاجتماعية، مثل المدرسة، والمكتبة، والمسجد ، ووسائل الإعلام وغيرها. جميعها لها نسبة معينة من مسئولية التنشئة الاجتماعية . ويفترض ألا تزيد حصة كل منها على النسبة المفترض أنها مقررة. ثم هناك أجهزة ومنظمات أخرى يفترض أن دورها في عملية التنشئة محدود، أو ليس لها دور رئيسي مثـل جماعات الجيرة، وعصابات الصغار،وما على شاكلتها بعض هذه عبارة عن جماعات منحرفة، وتتولى تعليم الصغار تقنيات الانحراف وتقنيات تبريره . عندما تتولى مثل الجماعات ملء الفراغ الذي تتركه الأسرة، فلا يتوقع أن تكون النتائج طيبة . إن كثرة تعدد المؤسسات والجهات التي تشترك في عملية التنشئة الاجتماعية، لا يعنى بالضرورة وجود تنسيق بينها . بل قد يعني الكثير من الخلافات ومن التضارب . مما يؤدي لوقوع الصغير فريسة لحالة من عدم الوضوح فيما يتعلق بالقيم وبالمعايير.
الاستهلاك صفة من صفات المجتمع . لكن من بين خصائص المجتمع الحديث أنه مجتمع الاستهلاك الواسع . وهو وضع ساعد على ظهور قيم جديدة، تحث على التوسع في الاستهلاك وتزين طريقه . وقيم تحث على كسب المال والكثير منه ليتمكن الفرد من الشراء والاقتناء الكثير والمستمر. وعندما يتم التأكيد وبقوة على كسب المال، ولا يصاحبه التأكيد وبنفس القوة على أن يتم بالأساليب المعيارية ، وأن يرتبط به نظام صارم للضرب وبشدة على يد كل مخالف بغض النظر عن موقعه الاجتماعي ، قد يكثر عندئذ عدد الذين يستسهلون الطرق ، ويختارون أقصرها، حتى ولو لم تكن شرعية ، أو لا تحظى باحترام الملتزمين بالقيم الثقافية . فمثلا قد تكثر حالات الذين يختارون القيام بأعمال غير منتجة اجتماعيا، كأعمال السمسرة والوساطة، والحراسة، والتحايل على القوانين، وغيرها من الأنماط التي لا تحتاج الى مجهود كبير، ولا الى التسلح بقدرات علمية أو فنية. لا شك أن المال أصبح يحتل مكانة عالية . ففي المجتمع الحديث ، لا يحصل الفرد على شيء مادي بدون مال . ويستطيع المرء شراء أي شئ مادي بالمال بغض النظر عن مصدره . فكما يشتري شخص سلعة بمال كسبه بعرقه، يشتريها شخص
آخر بمال مسروق. فعند القيام بعملية شراء في المجتمع الحديث، لا يسأل الشاري عن مصدر ماله، ولا عن الوسيلة التي استخدمها لجمعه . لم يكن هذا متاحا عندما كان المجتمع بسيطا، ومجال الشراء محدودا . ويكمن الخطـر في أن يتشرب الأفراد القيم المادية لذاتها. صحيح إن المال هو عصب الحياة في المجتمــع الحديث ، لكنـه ليس كل شيء في حياة الإنسان . فهو وسيلة لتحقيق غايات ، وليس غاية في حد ذاته. " إن النقود قادرة فعليا على شراء أي شيء في ظل الرأسمالية ، إلا أنها تعجز عن أداء هذه الوظيفة في العالم الإنساني الحقيقي. ففي مثل هذا العالم، يستطيع الفرد مثلا أن يقايض الحب بالحب فقط. فالثروة مجرد مظهر خارجي، إذا نزعت فإنها لا تترك أثرا. لكن عالمية الحاجات والقدرات، وصور الاستمتاع، والقوى الإنتاجية للأفراد … الخ..تتحقق في ظل عملية تبادل شاملة. فماذا يحدث إذا لم يتحكم الإنسان كلية في قوى الطبيعة ؟ طبيعة الإنسان نفسه، والطبيعة بالمعنى الشائع؟ وماذا إذا لم تحدث بلورة وتطوير كامل لنزعات الإنسان الإبداعية " ( الجوهري ، 1993 :119 ـ 120 ). المال هو عصب الحياة . لكن الثقافة الرسمية تقتضي أن من يستوعب قيمة المال ، عليه، أن يستوعب بالمقابل قيمة الحصول عليه بالسبل المقررة أي المشروعة . غير أن السائد في الكثير من مجتمعات الوقت الحاضر، أن هناك ثقافة غير رسمية، تشجع الفرد على تحقيق النجاح المادي من دون أن تحثه بالمثل على اتباع الوسائل المشروعة، المؤدية لذلك النجاح .
وإلا كيف يمكن تفسير قيام أفراد يحتلون مراكز اجتماعية مرموقة، باستغلال هذه المراكز لكسب المال الكثير، وبدون حدود، بوسائل غير مشروعة، بل وتؤدي عندما تكشف أسرارهم الى انهيار كل شيء بنوه. وقد فضل بعضهم الانتحار عن مواجهة الناس . ولكن على الجانب الآخــــر أيضا، يلاحظ أن البعض ما يزالون يحققون أهدافهم أو بعضها بالسبـل المشروعة . وتحتل قيمة النجاح عندهم مكانة عالية . هل يعني أن هؤلاء يتمتعون بصحوة ضمير لا يتمتع بها أعضاء آخرون ؟ وماذا تعني صحوة الضمير ؟ هل تعني أكثر من تشرب الفرد للقيم الثقافية الصحيحة؟ أصبحت الجماعتان اللتان تقدم وصفهما موجودتين جنبا الى جنب في المجتمع الحديث، وأعمالهما غير خافية . وفي نفس الوقت يتعرض الجميع لضغوطات للعمل، لتحقيق النجاح، ولمزيد من النجاح . يقع الأفراد تحت تأثير قوتين، تمثل إحداهما ثقافة تؤكد على ضرورة تحقيق النجاح بأية وسيلة ، وتمثل الثانية مجموعة وسائل واضحة . لكن السير عبر تلك الوسائل، يتطلب تزود الفرد بإمكانات
معينة . ويكتشف البعض أن الطرق للتزود بتلك الإمكانات غير مفتوحة ، أو تعترضها عقبات كثيرة . وفي رأي بعض الباحثين قد تؤدي الضغوطات الكبيرة للنجاح الى الانحراف، عندما يفشل المجتمع في المساواة بين أعضائه، من حيث فرص الوصول الى القنوات الشرعية المؤدية للنجاح ( Clinard , 1971: 99 ) . وكأن المجتمع الذي تؤكد ثقافته على القيمة لذاتها، ولا تربط بمبدأ تكافؤ فرص الوصول الى الوسيلة، ولا تراعي الإمكانات والقدرات الفردية، يكون أرضا صالحة لزرع بذور اللامعيارية. وفي مجتمع يؤكد فيه باستمرار على النجاح المادي ، وتتاح الفرصة فيه للجميع، للاطلاع على مظاهر النجاح المادي ، ويعلن فيه أن الجميع متساوون في حق التقدم الى الأمام ، قد لا يجد من يجرب، ويتأكد من أن الطرق المؤدية لأبواب النجاح، ليست مفتوحة أمام الجميع بالتساوي، غير البحث عن سبل جديدة ومختلفة حتى لو نعتتها الثقافة السائدة بالانحراف.
اللامعيارية وسلوك الغش في الامتحانات ذكرنا آنفا أن نظرية اللامعيارية في آخر أشكالها، تصلح لتفسير مجال واسع من أنماط السلوك المنحرف . كما ذكرنا أن سلوك الغش في الامتحانات، يخالف ما تنص عليه القوانين واللوائح التي تنظم العملية التعليمية . فهو بذلك لون من ألوان السلوك الغير سوي . وعليه يمكن أن تبذل محاولة للاستفادة من نظرية اللامعيارية، لتفسير الأسباب التي تجعل بعض الطلاب يلجأون الى هذه الوسيلة، للوصول الى أهدافهم، المتمثلة في النجاح في مقرر دراسي. لكن ما طبيعة العلاقة الموجودة بين الطالب والمؤسسة التعليمية، وما فيها من مقررات دراسية، ومدرس ، وقواعد للتقييم؟ وهل توجد هوة بين الطالب وبين مكونات المؤسسة التعليمية ؟ بمعنى هل يشعر الطالب بأنه مهمش ؟ أو أن درجة انتمائه ضعيفة ؟ والا فكيف يمكن تفسير قبوله بجزء من مقومات العملية التعليمية، ورفض جزء آخر؟
عموما ، يوجد في كل مجتمع حديث نظام للتعليم . وفي الكثير من المجتمعات الحديثة يسود ما يعرف بديموقراطية التعليم والتي تعني ضمن أشياء كثيرة، فتح المجال أمام جميع أعضاء المجتمع، للحصول على أكبر قدر من التعليم، تسمح به قدراتهم العقلية . وفي أغلب الأحيان يتعرض الجميع لنفس البرنامج ، ويدرسون نفس المواد ، ويخضعون لنفس المعاملة. النجاح في الامتحان شرط أساسي للانتقال بين مراحل التعليم، والوصول الى الهدف، وهو الحصول على شهادة من الشهادات. هذه القاعدة العامة مطبقة في جميع مراحل وأنواع التعليم، باستثناء عدد من سنوات التعليم الابتدائي. لذلك يدخل الطالب خلال سنوات حياته الدراسية كما هائلا من الامتحانات .
إذ يمتحن في كل مادة وفي كل سنة دراسية. فالامتحان هو السبيل الوحيد، المعترف به للتقدم نحو الهدف. وللامتحان شروط مكتوبة ومعلنة ومعروفة. ويمكن القول أن جميع الامتحانات التي يمر بها الطالب، تعتمد على الحفظ والاستذكار والتذكر. ويمكن القول أيضا أن لمعظم الامتحانات التي يمر بها الطالب رهبة خاصة لما تحاط به من تنظيمات وطقوس. ويصاب بعض الطلاب بحالات من الخوف الشديد عند التفكير في الامتحانات. يتعرض الطالب لضغوطات للنجاح وللتفوق، ليضمن الانتقال الى مراحل أعلى . تأتي الضغوطات من مصادر متعددة، مثل الأسرة ، والرغبة الداخلية ، وجماعة الأصدقاء، وأفراد آخرين مثل المدرس والأقارب . بالطبع لا يتعرض جميع الطلاب للضغوطات بنفس القوة . بل قد لا يتعرض بعضهم لأية ضغوطات . يتعلم الطلاب القواعد المتعلقة بالنجاح في الامتحانات. والنجاح قيمة
عالية، ويعني صفة موجبة ، بينما الفشل صفة سالبة، ولا يحب الطالب أن يوصف بها . ومع كل التسهيلات التي توفرها الدولة، تواجه الطالب عقبات كثيرة، تعرقل طريق تعلمه للمادة العلمية . يرجع بعضها لطبيعة المادة نفسها، أو للمقدرة العقلية للطالب، أو لدور المدرس، أو لدور المدرسة ، أو لهوايات الطالب، وخصوصا التي تأخذه بعيدا عن النشاط الأكاديمي وتؤثر سلبا على الدراسة.
لكن يظل النجاح والتفوق في ذهن الجميع . ويظل هنالك طلاب لا يستطيعون الوصول إليه عبر السبل المشروعة . وينتشر نمط سلوكي يخالف القيم والمعايير المتعلقة بالسبل المشروعة، ويمر عبر طريق يعرف بطريق الغش في الامتحانات . ولهذا الطريق الأخير قيم ومعايير خاصة به . ولهذا الطريق تقنيات تتعلم وتتقن . وإذا تكاثر عدد الذين يسلكون السبيل الأخير وانتشروا ، وتكاثر عدد المؤيدين من خارج شريحة الطلاب، مثل أولياء الأمور، والمدرسين، ومدراء المدارس ، فيفترض أنهم سيطورون ما يمكن أن يطلق عليها " ثقافة فرعية" ذات خصوصيـة في قيمها وفي معاييـرها، تقدم دعما معنويا للذين سيسلكون طريق الغش . وهي ثقافة فرعية تطورت نتيجة عدد من الأسباب، أهمها انتشار ظاهرة تبرير الغش في الامتحانات، أو التغاضي عنه ، أو التسامح مع مرتكبيه بين شريحة كبيرة في المجتمع . تشمل طلابا، وأولياء أمور، ومسئولين عن العملية التعليمية، وعاملين في قطاعات عمل قد تستغل في تسهيل عمليات الغش، مثل محلات الطبع والنسخ والتصوير. أن سيادة هذه الروح المشجعة لنمط السلوك هذا، لا تبرز فجأة، كما لا تبرز من فراغ . بل لهذا علاقة بما يجري في المجتمع الكبير، وترتبط بطبيعة المرحلة التي يمر بها، والتي يمكن وصفها بأنها مرحلة تغير اجتماعي سريع . أدت هذه السرعة الى التأثير في عدد من ثوابت الثقافة السائدة، فظهور شعور عام من نوع عدم التيقن من جدوى بعض القيم والمعايير التقليدية . مما أدي الى ظهور وتنامي وانتشار حالة من اللامعيارية. القوانين واللوائح التعليمية لم تتغير بهذا الشان . ولا تزال العقوبات التي تقرر ضد من يضبط متلبسا بسلوك الغش صارمة . لكن يوجد ما يؤكد على أنه في حالات كثيرة، وخصوصا في امتحانات الشهادات العامة، يتعاون عدد كبير من المسئولين عن العملية التعليمية، لتسهيل عملية الغش على نطاق واسع . يشترك في هذه العملة المراقبون على الامتحانات أنفسهم، وادارة المدرسة، وبعض المدرسين. وتؤدي هذه العملية الى نجاح عدد كبير من الطلاب، وحصولهم على معدلات درجات عالية، ودخولهم الكليات الجامعية التي يتطلب دخولها مثل هذه المعدلات . ولكن نسبة كبيرة من هؤلاء تتعثر في تعليمها، وخصوصا عندما تقابل بأوضاع لا تسمح بالغش. ويظهر ما يعرف بالانتقال من كلية الى أخرى، وينتهي المطاف ببعضهم الى المرور بعدد من الكليات، ثم الخروج بدون شهادة . عند الحديث عن انتشار حالة اللامعيارية، لا بد من الإشارة الى أنها ليست حالة عامة، تعم جميع أفراد المجتمع، وإلا لما سميت بهذا الاسم . هي حالة تنتشر بين شريحة من أفراد المجتمع، تتخذ موقفا من عدد محدود من القيم والمعايير . ويظل أعضاء هذه الشريحة يؤمنون ببقية القيم ويحترمونها، ويلتزمون بالمعايير المتعلقة بها . بل أن أعضاء هذه الشريحة قد يبررون فعلا ما في ظروف معينة، وليس في جميع الحالات . فمثلا قد يبرر الشاب سلوكه المتمثل في تطوير علاقة غرامية في السر مع فتاة، ولكنه لن يسمح بنفس السلوك إذا كانت المعنية أخته . فهو يسمح لنفسه، ولا يبرر أن تشترك أخته في علاقة مماثلة مع شاب آخر . وهكذا بالنسبة لعدد آخر من أنماط السلوك. يطور كل من أعضاء الشريحة المعنية باللامعيارية في داخله، نسقا قيميا يشمل قيما من الثقافة التي ينتمي إليها، وقيما أخرى عبارة عن تحويرات للقيم الرئيسة، أو حتى قيما جديدة . يقوم من خلال نسقه القيمي بتبرير تلك الأفعال، التي يخطط للقيام بها، وهو يعلم مسبقا أنها غير مشروعة في عرف الثقافة العامة. وعملية التبرير هذه ضرورية، وإلا لما تمكن الفرد من أن يقوم بالفعل ويحافظ على درجة من الاتزان مع نفسه. فهذه الإمكانية التي يتمتع بها، هي ما يمكن أن يشار إليها بحالته الخاصة من اللامعيارية، والتي تعرف باصطلاح ( الأنوميا).
بالإمكان بناء مقياس يقيس هذه الصفة ، وبالإمكان قياس درجة كل فرد على هذا المقياس . وستختلف درجات أعضاء الشريحة المعنية باللامعيارية على مثل هذا المقياس . وسيرتبط السلوك المنحرف للفرد، عندما يمكن قياس نمط سلوك معين بحالته على مقياس ( الأنوميا ).
ذكرنا أن أعضاء شريحة المجتمع التي تتورط في سلوك الغش، إما بمزاولته فعلا، أو بالتشجيع عليه، أو بتسهيل القيام به، غير متجردين ولا متنكرين لجميع قيم ثقافتهم . وانما يشاركون في نمط سلوك واحد أو أكثر، لظروف معينة يجدون أنفسهم فيها . لذلك وقبل أن يشاركوا في أنماط السلوك هذه، لابد وأن يقوموا بعملية تبرير أولا . فبالنسبة لسلوك الغش في الامتحانات، يذكر من سيشاركون فيه بدور، أو يذكرون أنفسهم مثلا : أن الجميع يقوم بهذا العمل ، أو هذا عمل من نوع تقديم المساعدة للغير ، أو أن الامتحانات صعبة وفوق طاقة الطلاب ، أو أن الطلاب لم تتح لهم - لسبب من الأسباب - دراسة وهضم المنهج، وهكذا . وقد تشمل التبريرات نوعا آخر تنتقص من قيمة المعرفة والعمل الأكاديمي مثل : يثاب الطلبة على النجاح، وليس على الطريقة التي استخدمت ، أو أن المادة العلمية المقدمة غير مجدية، ولا تفيد في الحياة اليومية ، أو أن الاهتمام بحفظ المادة العلمية عادة قديمة، وتوجد في الحياة أشياء أهم، أو أن المذاكرة والحفظ شيء ممل وهكذا . هذه العملية التي تسبق المشاركة الفعلية هي ما سنطلق عليها هنا ( التجاوز عن الغش ) . وبعبارة أخرى سترتفع معدلات التجاوز عن الغش بين الطلاب الذين ترتفع لديهم درجة اللامعيارية على مستوى الفرد ( الأنوميا ). كما أن مثل هؤلاء الطلاب لن يبدون اهتماما كبيرا بالدراسة وبالعمل الأكاديمي . التجاوز عن الغش في الامتحانات وسلوك الغش في الامتحانات يمكن تصور وجود أشخاص يتخذون موقفا ايجابيا بالكامل من الغش في الامتحانات، ومثل هؤلاء قد لا يرون أدنى حرج في التصريح بأن الغش سلوك عادي وطبيعي، ولا غبار عليه . وفي مثل هذه الحالات، يتوقع من مثل هؤلاء الاشتراك في الأنشطة المتعلقة بالغش، كلما سنحت الفرصة . لكن غالبية من سيتخذون من الغش موقفا إيجابيا، لن تصل درجاتهم على مقياس يقيس التجاوز عن الغش الى الحد الأعلى، وانما ستتراوح بين رقمين، يمثلان الدرجتين الدنيا والعليا على المقياس . بل يتوقع أن غالبية الذين سيصنف موقفهم اتجاه الغش موجبا لن ينكروا أن الغش بصفة عامة سلوك غير قانوني . ولكن يمكن القيام به في ظروف معينة. ثم تشرح تلك الظروف. وحينئذ قد يأتي ذكر مجموعة من الأسباب، تبين أن الطرق المعيارية كانت مسدودة ، أو أن المسالك نحوها كانت تعترضها عقبات . لكن كيف يصنف المشاركون في هذا النمط من أنماط السلوك "الغش"، من حيث علاقته بنسق الأخلاق الفاضلة في المجتمع ؟ أم تراهم لا يتعرضون بالحديث أو بالتفكير في هذه القضية ؟ لا شك أن الأسرة العادية في أغلب المجتمعات، وفي المجتمع العربي بصفة خاصة، تحرص على تنشئة أبنائها على حسن الخلق . ولا شك أن قواعد هذه التنشئة في المجتمع العربي على وجه الخصوص، مستمدة من الدين والذي يحض على مكارم الأخلاق .وبكل تأكيد لا يوافق المواطن العادي على أن الغش في الامتحانات من بين مكارم الأخلاق. وإذا تشرب الفرد جميع ما يتصل بحسن الخلق، فلا يتوقع منه عندئذ أن يتسامح مع ظاهرة الغش، أو ينخرط فيها.
فالالتزام الخلقي يجنب الفرد تبرير أنماط السلوك المنحرف، ومن ثم مزاولتها. ويبدو أن الذي حدث بالنسبة لبعض أنماط السلوك المنحرف عند بعض الناس، أن توافر الأسباب التي تشجع على تبريره، أكثر بكثير من مقومات الالتزام الخلقي. وقد عرف المجتمع العربي خلال السنوات الأخيرة عددا من الظواهر المحيرة في هذا الشأن . فقد يقوم شخص وبشهادة الجميع أنه على خلق كريم بالتزوير في أوراق، أو بالادلاء بافادة ، بحيث يحصل على ميزة لم يكن سيحصل عليها لو لم يفعل ذلك. وقد يعلل ما يقوم به بأنه ليس موجها نحو أشخاص اعتباريين وانما نحو الحكومة مثلا ، وأن ما سيحصل عليه من فوائد هو في النهاية حصته من الدخل العام وهكذا . وقد يشارك في هذه الأفعال أشخاص يحتلون مراكز اجتماعية عالية، ويتمتعون بسمعة حسنة. فهل لمثل هذه الظواهر المحيرة ارتباط بمرحلة التغير الاجتماعي التي يمر بها المجتمع ؟ سبق أن ذكرنا بأن المجتمع العربي ، يمر ومنذ النصف الثاني من هذا القرن بمرحلة تغير اجتماعي سريع وشامل . وقد طال التغير كافة الأنساق بما فيها نسق القيم . بيد أن التغير الاجتماعي الذي يطرأ على هذه الأنساق غير منسق ولا متكافئ. ويعني هذا أن التغير في هذه الأنساق، لا يسير في كل مجالاته بخطى متناسقة ، حيث أن كمية التغير التي تحدث في نسق، لا تعادل الكمية ولا النوعية التي تحدث في نسق آخر. وينتج عن هذا نوع من الاختلال، وحالة من حالات عدم التوازن . ومن المعروف أن كمية التغير التي تحدث خلال فترة زمنية معينة في الجانب المادي للبناء الثقافي، أكثر وأوضح للعيان من التغير في الجانب غير المادي، مثل القيم والمعايير وتوظيفاتها في العادات وفي الأعراف وفي القوانين. كما أن الاختلاف يظهر حتى في الكيفية التي يتكيف بها أعضاء فئات المجتمع المختلفة . حيث تقبل بعض شرائح المجتمع بالتغير بكيفية أسرع مما تقبل بها بقية الشرائح . وأدى هذا الحال الى تباين الجماعات في داخل المجتمع، مما أدى الى تطوير ثقافات فرعية، تخص كل واحدة منها فئة معينة . ومع أن الثقافات الفرعية تشترك في الكثير من الخصائص مع الثقافة الرئيسة أو الثقافة الأم ، إلا أنه لكل منها تفريعات في مجالي القيم والمعايير، تجعل المنتمين لكل واحدة يتصرفون تصرفات مختلفة عندما يواجهون بنفس الموقف.
يرى البعض أن تعدد الثقافات الفرعية في داخل المجتمع الواحد، يتسبب في مشكلات من أبرزها افتقار المجتمع للتجانس . وفي مثل هذه الحالة ينقسم المجتمع الى عدة جماعات لها تصورات مختلفة ، ومتباينـة تجاه ما هو صواب، أو ما هو خطأ في مواقف بعينها . فقد يعتبر أحد الأشخاص نمطا سلوكيا معينا سويا، في نفس الوقت الذي يصنفه فيه آخر في نفس المجتمع منحرفا. فتعدد الثقافات الفرعية داخل المجتمع الواحد، يجعل تقييم أفراد تلك الثقافات الفرعية للسلوكيات والاتجاهات تقييما نسبيا . كما أنه في مثل هذه الحالة يصبح من الصعب جدا أن نجد اتفاقا كاملا بين أعضاء المجتمع وجماعاته المتعددة، حول ما يعد انحرافا وما لا يعد كذلك ( التير ، 1990 : 211 ). لا شك أن الأفراد المنتمين لثقافات فرعية، ذات أصول مختلفة، ويعيشون في مجتمع واحد، مثل كندا وأمريكا، ومجتمعات أمريكا اللاتينية، واستراليا سيتخذون مواقف مختلفة قد تصل الى درجة التنافر . لكن الاختلافات بين أعضاء ثقافات فرعية تنتمي الى أصل واحد مختلفة ليست على هذا المستوى من التنافر . وقد تتطور في داخل المجتمع ثقافات فرعية ( منحرفة )، كما يحلو لبعض دارسي الجريمة وصفها، وخصوصا في المجتمعات ذات معدلات الجريمة العالية، كالمجتمع الأمريكي. فعالم الاجتماع الأمريكي ألبيرت كوهين قدم وصفا مفصلا لخصائص الثقافة الفرعيــة المنحرفــة، وبين كم هي مختلفــة ومتعارضــة مع الثقافة الأمريكية الأم ( Cohen,1955 ). مثل هذه الحالة لاحظها ودرسها الباحثون في مجتمع معين . نظريا يمكن أن يتطور مثل هذا النوع من الثقافات الفرعية في مجتمعات أخرى . وفي مثل هذه الأحوال يمكن تصور مجتمع تجري فيه حرب بين ثقافات فرعية ، وهو وضع شاذ وغريب .
عندما تتواجد ثقافات فرعية في داخل المجتمع، تتاح الفرصة أمام إمكانية كثرة الذين يتسامحون مع بعض أنماط السلوك المنحرف . وكلما تباعدت قيم ومعايير هذه الثقافات الفرعية، كلما ارتفع عدد الأفعال التي يمكن التجاوز عنها . لكن هذا الوضع قد يشكل تهديدا لنسق القيم للثقافة الرئيسة. حيث يقود تكاثر التسامح مع عدد كبير من الأفعال المنحرفة، الى تكاثر عدد الأفعال المنحرفة في المجتمع . كما أن تنوع التسامح مع أنماط منحرفة من النوع البسيط، قد يقود بمرور الوقت الى التسامح أيضا مع أفعال منحرفة، ليست من النوع البسيط . كما أن هذا قد يقود بمرور الوقت الى : " اتساع هامش التجاوز عن الفعل المنحرف، ويحدث تمدد قيمي ، لأنه كلما تم قبول الفعل المنحرف ، دخل ضمن دائرة الأفعال المقبولة ، ثم تتسع الدائرة لتتخذ حدودا هامشية جديدة، تسمح بقدر من التجاوز عن أفعال أخرى منحرفة ، ويصبح ما كان مرفوضا بالأمس ، مقبولا اليوم. وكلما زاد التجاوز وقبول الفعل المنحرف في جهاز ضابط ما ، كلما تفشى على مستوى الأجهزة الأخرى ، حيث تأثير المدخلات والمخرجات، وحيث الإحساس العام بالمناخ السائد ، وأنه التيار السائد في المجتمع ، وأن الكل يسير على هذا النهج "( عبد الحميد ، 1985 : 151 ).
والقول بأن الفعل المصنف ضمن السلوك المنحرف يمثل تيارا سائدا، وأن الكل يسير على نفس النهج من نوع الحديث الذي يستخدمـه الفرد لتبرير ما سيقوم به أو قام به فعلا. وفي كلا الحالين، يحتاج مرتكب الفعل المخالف للقواعد والقوانيـن لمثل هذا التبرير. وقد لاحظ عدد من المهتمين بدراسة الجريمة والانحراف منذ زمن بعيد، أن الذيـن ينخرطون في الجريمة يعمدون الى تطوير استراتيجية لفظية، يبررون بها أعمالهم المنحرفـة قبل وبعد أن يرتكبوها . ومن مكونات هذه الاستراتيجية اللفظية، ما يمكن أن يسمى بإنكار المسئوليـة ، وتوجيه اللوم الى الآخرين ، وإنكار إلحاق الضرر بالغير ، ووجود قوى خارجية أى خارجية بالنسبة للفرد، تفرض على الفرد التوجه نحو اتجاه معين (Hartung, 1965 : 62-83 ) . إن استخدام الاستراتيجية المشار إليها آنفا، أمر هام في جميع المناسبات التي يرتكب فيها الفرد مخالفة، للمحافظة على حالة من الطمأنينة مع النفس والذات . فشعور الطالب أو الآخرين الذين يساهمون معه في اختيار طريق الغش في الامتحانات بأن الجميع يستخدم هذا الطريق ، وأن هذا سلوك شائع في المجتمع، يعطيه دعما في اتجاه تجاوزه، أو تسامحه مع هذا السلوك،
ومزاولته فيما بعد . ونفس الشيء يمكن قوله عندما ينكر المسئولية، ويضعها على أكتاف الآخرين . حيث يتعذر البعض بأن طلابا آخرين يطلبون منه المساعدة . وأحيانا يطلب المدرس نفسه من طالب مجتهد، أن يساعد زملاءه أثناء تأدية امتحان . فكرة عدم إلحاق الضرر بالغير هي الأخرى فكرة جذابة، للذين يشاركون في سلوك الغش . ففي مثل هذا الوضع لا يوجد ضحايا بالمعنى التقليدي للكلمة . فلا أحد سيخسر مالا، أو سيجرح أو يقتل. بالطبع توجد خسائر من نوع آخر، ولكنها في العادة لا تثار، ونقصد بها تفويت الفرصة أمام فهم المادة العلمية من ناحية ، وعدم استفادة الطالب المجد من ناحية أخرى . فعلى هذا الطالب تفوت الفرصة لتفوقه بجهده . إذ قد يتفوق آخر سلك طريق الغش، وفي هذا غبن بالنسبة للطالب الملتزم بمراعاة القواعد الرسمية.
كما أن البعض، يلجأ لذكر ظروف قاهرة وخارجية، مثل تدني مستوى المعلمين، أو غيابهم المتكرر، أو عدم اهتمامهم ، وكذلك وجود ظروف منزلية لا تشجع على المذاكرة ، أو نقص المراجع أو تأخر وصولها وهكذا . الغش في الامتحانات قد يكون عملا يتطلب معرفة ببعض التقنيات ، وقد يأخذ أشكالا متعددة ، وقد يحتاج الى تعاون أكثر من شخص . والتعاون يعني تعاون الطلاب في المكان الأول. وهو تعاون من شأنه أن يذلل الصعاب أمام السير في هذا الطريق لمن يختار السير فيه. تعاون يوفر للبعض فرصة تعلم التقنيات الضرورية، بالإضافة الى استراتيجية للتبرير. فقد يوزع مجموعة من الطلبة بينهم مهام يتحتم على الكل العناية بها، ثم يتبادلونها أثناء عمليات الغش. كما يقدم هذا التعاون دعما معنويا للمشاركين في هذا السلوك، بحيث يشعر كل واحد أنه ليس وحيدا مما يساعده في عملية تبرير السلوك وفي الانخراط فيه. يقع على المدرسة مسئولية تعليم الطلاب القيم والمعايير التي تدعم العملية التعليمية. وهي قيم ومعايير تؤكد على الجد والاجتهاد، وتحقر من شأن أنماط السلوك التي لا تناسب صفات الطالب الملتزم النجيب. ولكن سيكون بين الطلبـــة ملتزمون ، وغير ملتزميــن.
لذلك تحرص المدرسة على تطبيق مواد لائحة تتعلق بجميع أنماط السلوك الممنوعة. وتنزل إدارتها العقاب بكل مخالف، ليمتثل الجميع لقوانين المدرسة. يفترض أن تكون المدرسة مؤهلة للقيام بهذه المهمة . مؤهلة من حيث الطاقات البشرية، ومن حيث استعدادها لتطبيق اللوائح كلما دعى الأمر لذلك . فالاستعداد للتطبيق مرحلة هامة لدعم القيم الصحيحة . لكن الذي يحصل في بعض الأحيان، أن المسئولين يقررون أن القواعد صارمة أكثر من اللازم، لذلك يتهاونون في تطبيقها . وإذا أغفلت إدارة المدرسة تطبيق الجزاءات المتعلقة بالغش في الامتحانات عندما تحدث حالات غش، فستكون بذلك قد شجعت عليه بطريــق غير مباشر.
فالمدرسة عندما تتهاون في مواجهة الغش، فإنها ترسخ في أذهان بعض طلابها قناعات خاطئة.ومن بينها أن الغش ليس ضمن الأفعال الخطأ . ثم أن المدرسة تقلل من خطأ ارتكاب الغش في نظر طلابها ،عندما تتولى بنفسها عن طريق المدرسين أو الإداريين تسهيل عمليات الغش تحت مبررات معينة . قد تعلن هذه المبررات على شكل أن المدرسة مقصرة في حق الطلبة ، أو أن الغش في الامتحان لا يعني شيئا كبيرا، ولن يصبح عادة دائمة الخ.. وفي مثل هذه الأحوال لا يتوقع أن يشجب الطالب سلوك الغش . وبمرور الوقت يصبح تهاون المدرسة هذا عاملا يدفع بعض الطلاب نحو الغش. كما يصاب الطلبة الجديون بخيبة أمل في المدرسة، وفي المدرس، وفي النظام التعليمي بأسره. فالمدرس قدوة حسنة وهو مثال يحتذى . وعندما يتساهل هذا المثال في موضوع الغش، يكون بذلك قد بعث برسالة الى الطلبة، مؤداها أن الغش من بين السبل التي يمكن اختيارها للوصول الى الهدف . وإذا تشرب الطلاب أو بعضهم مفهوم هذه الرسالة، فسيحصلون على دعم قوي لتبرير سلوك الغش ولممارسته . ولذلك يتوقع أن ترتفع معدلات الغش في الامتحانات بين الطلاب الذين يبررون هذا النمط من أنماط السلوك .
عدم الاهتمام بالعمل الأكاديمي وسلوك الغش في الامتحانات أصبح التعليم في الوقت الحاضر تعليما للجميع . وهذا يعني ضمن أشياء أخرى،
أن الجميع عند بلوغ سن السادسة - في معظم الأحوال - سيلتحق بالدراسة ، وسيتنقل عبر مراحلها الى أن يكمل مرحلة التعليم الأساسي ، ثم يواصل عبر التخصصات المتنوعــة، الى أن يحصل على شهادة أعلى. ولأن جميع مراحل وأنواع التعليم بالمجان، فيمكن أن يستمر الطالب الى أن يصل الى أعلى المستويات، بما في ذلك التعليم العالي . ويعني هذا أيضا أن مقاعد الدراسة، وبغض النظر عن مستوى ونوع التعليم، سيتواجد فوقها طلاب لهم مختلف القدرات، والمشارب، والرغبات والتطلعات، والخلفيات الاجتماعية .
وفي وسط هذا التنوع سيجلس الطالب المجد وصاحب الرغبة القوية في التعلم، الى جانب الطالب غير المجد والذي ليست له رغبة في التعلم وقد جلس هذا الطالب الأخير على مقاعد الدراسة، لأنه فرض عليه الجلوس في بداية المشوار ، ثم واصل الجلوس لتعرضه لضغوطات أسرية، تلبية لرغبة الوالدين أو طاعة عمياء لهما ، وغير أسرية، مثل تواجد رفاق اللعب في المدرسة مثلا، أو ليظهر أمام الآخرين أنه مثل بقية أصدقائه، ولا يقل عنهم لا في الاستعداد ولا في المقدرة . وقد يواصل الجلوس لأن المدرسة أو المؤسسة التعليمية هي أفضل ما هو متاح أو متوفر للتواجد فيه، عندما لا تكون للطالب رغبة أو استعداد للدخول الى سوق العمل . لا يعني هذا أن جميع الطلبة الذين يمكن تصنيفهم ( بغير مجد ) اكتسبوا هذا التصنيف منذ أول يوم مدرسي . فبعضهم قد ينطبق عليه هذا الوضع ، لكن البعض الآخر اكتسب اللقب بعد أن قطع مرحلة في الدراسة . فقد يظهر بعد فترة أن قدرات الطالب العقلية لا تسمح له بالدخول في منافسة علمية عادلة مع بقية الطلاب . وقد يتعرض حتى الطالب ذو القدرات العقلية، الجيدة أو الممتازة أثناء سنوات التعليم، الى ظروف خارجة عن إرادته، تفرض عليه وضعا يقوده في النهاية الى أن يلتحق بزمرة الطلبة غير المجدين. للطالب غير المجد صفات متعارف عليها، لعل أهمها الكسل ،والإهمال ، والتسيب، واللامبالاة، والمشاغبة، ومحاولة عرقلة العملية التعليمية أو إبطائها بالنسبة للموجودين معه في الفصل. ولكون التقعات الاجتماعية تدفع بجميع الطلاب نحو التقدم الى الأمام في السلم التعليمي يجد الطالب غير المجد نفسه هو الآخر مطالبا بأن ينجح في كل سنة دراسية . ونجاح الطالب غير المجد، لا يتم عبر الدروب العادية للنجاح، وانما عبر دروب ملتوية تعتمد الغش في الامتحانات ، وغير الغش مثل التهديد والوعيد، والالتجاء
الى الوساطة الخ… لا شك أن للطالب ذي القدرات العقلية (الذكاء) المحدودة عذره في عدم القدرة على مسايرة بقية طلاب فصله في استيعاب ما يقدم إليه. ومن الناحية النظرية والمثالية، مثل هذا الطالب يجب أن يتواجد في فصل خاص، ويعامل معاملة خاصة . لكن عندما لا يراعى جانب القدرات العقلية والميول الفردية في توزيع الطلاب بين الفصول، فان الذي يحدث هو حشر جميع الصغار، على اختلاف قدراتهم وميولهم في فصل واحد . وقد لا يقدر المدرس نفسه هذا الجانب المهم، فيعرض الجميع لنفس المعاملة، وفي هذا غبن كبير لبعض الطلبة . بل فوق هذا عرف عن بعض المدرسين وخصوصا في المراحل الأولى للتعليم الأساسي، توزيع الطلاب في داخل الفصل المدرسي، بناء على درجة نجاحهم في فهم الدروس ومتابعتها أولا بأول . بحيث يخصص صفا مثلا في داخل الفصل، يسميه من عنده صف التلاميذ الضعفاء . لا بل إن بعض المدرسين لا يستعمل حتى هذه التسمية المهذبة نوعا ما، على ما فيها من ظلم، بل يطلق عليه " صف أو صفة الحمير". وبدلا من أن يبذل المدرس مع طلابه غير المحظوظين جهدا خاصا للرفع من مستواهم قدر الإمكان، يهملهم بالكامل ويفرض عليهم التزام الهدوء التام. من غير شك أن مثل هذا الأسلوب لا تقره النظم التربوية، ولكنه اتبع تحت ضغط ارتفاع كثافة الفصول، وعدم التمييز بين الطلاب أثناء التوزيع، ولعدم كفاءة المدرس، أو عدم جديته . ويساهم مثل هذا الأسلوب في رفع نسبة الطلبة غير المجدين، بدلا من إنقاصها، وفي زيادة نسبة الذين يكونون اتجاهات سلبية نحو المؤسسة التعليمية، ونحو العملية التعليمية نفسها.
تعتبر المدرسة المؤسسة الاجتماعية الأهم، في تعويد الطلاب على القيم والمعايير، وما يرتبط بها من عادات تتصل بالعملية التعليمية. تساهم بقية مؤسسات المجتمع في هذه المهمة. لكن تقع على المدرسة النسبة الكبرى من المسئولية المتصلة بهذه المهمة . ومن ناحية أخرى تلعب المدرسة دورا هاما وخطيرا في تنشئة الأفراد اجتماعيا. فهي فى المجتمع الحديث بداية تعرف الفرد على مؤسسات المجتمع خارج الأسرة. ففيها يتعلم الاختلاط مع الآخرين، ومعنى الاعتماد على النفس، وضبط النفس ، والتقيد باللوائح وبالنظم . كما تعمل المدرسة على حفظ التراث الثقافي في المجتمع ، وتهذيبه وتكييفه لمتطلبات العصر ، ونقله للأجيال . وهي المؤسسة التي أوكل لها المجتمع مهمة تزويد الفرد بالمعرفة
العلمية، والتقنية، والعملية اللازمة لإعداده لمهنة، والتي تفيده وتفيد المجتمع . كما تقوم بدور في تنمية جانب من مكونات شخصية الفرد . وتتعدد الوسائل التي تستخدمها المدرسة في إعداد التلميذ للحياة ، وفي إعداده وفق الفلسفة التربوية والتعليمية التي يقرها المجتمع. ومن هذه الوسائل المعلم، والجهاز الإداري والفني، والمنهج، وأساليب التقويم، والأنشطة المختلفة ، واللوائح والنظم ونحوها. ولذلك فان نجاح التلميذ في دراسته، ومن ثم في حياته قاطبة، مرهون بقدرة ونجاح وفعالية تلك الوسائل في أداء وظائفها بالصورة المطلوبة . إلا أن العكس صحيح أيضا . ذلك لأن المدرسة التي تفشل في أداء رسالتها التربوية والتعليمية تتسبب في أن يكتسب تلاميذها مشكلات نفسية واجتماعية.
يعد المعلم حجر الزاوية في العملية التعليمية. وبقدر كفاءته تحقق التربية أهدافها.وكل مدخلات العملية التعليمية تعتبر عديمة الجدوى في ظل غياب المعلم الكفء. بل أن المعلم الفعال، يعوض كل نواحي القصور في المناهج وأساليب التدريس. والتدريس مهنة تتطلب معارف علمية وثقافية، وتطبيقات عملية دقيقة . وتحتاج الى حماس واخلاص من قبل المعلم. ولهذا فلا غرو أن يكون المعلم مفتاح العملية التعليمية، ورمز نجاحها أو فشلها . وهي العملية الموكل إليها بناء الإنسان القادر على العمل والإنتاج، والسير بالمجتمع الى الأمام.
إلا أن افتقاد المعلم إمكانيات نجاحه كمدرس، ينعكس سلبا على تحصيل طلابه . كما أن افتقاد المعلم للإعداد العلمي والمهني والثقافي والأخلاقي، يسلبه القدرة على ممارسة التدريس الفعال، وأن يكون القدوة الحسنة لطلابه، والتي تتناسب ومكانته التقليدية العالية . فقد تطورت له صورة مشرقة في الثقافة العربية الإسلامية . صورة محاطة بهالة من التقدير والاحترام . لذلك فهو بالنسبة لطلابه القدوة والمثال الذي يحتذى. لكن بعض المعلمين لا يتصرفون وفق الصورة المشرقة التي أشرنا إليها آنفا.
لذلك يصاب بعض الطلبة بخيبة الأمل والإحباط، عندما يعاملهم المعلم بقسوة ، أو يهمش دورهم، أو يكثر من الغياب ، أو يتحيز لطلاب دون آخرين ، لا بل وقد يمنح حتى أسئلة بعض المواد الدراسية قبل الامتحان فيها، أو يمنح البعض درجات أعمال السنة كاملة وبدون وجـه حق،
مما يقتنع معه الطالب أنه ليس بالجد والاجتهاد وحدهما سيحقق نجاحه . وتترسخ عنده هذه القناعات عندما يلاحظ مساعدة المدرسين الخصوصيين لطلابهم على الغش. أو يلاحظ مساعدة بعض المدرسين لأقاربهم على الغش. لا بل قد يلاحظ تورط بعض المديرين أنفسهم في عمليات الغش، مع طلاب تربطهم بهم صلة قرابـة، أو مصالح مشتركـة معهم أو مع ذويهم. إن مثل هذه الممارسات الخاطئة تنعكس آثارها السلبية على اتجاهات وسلوكيات بعض الطلاب، والتي في مقدمتها قلة اهتمامهم بالعمل الأكاديمي . وتلعب المناهج الدراسية دورا كبيرا في نفور بعض الطلاب من دراستهم . ذلك لأن المنهج قد يعانى من ضعف ارتباطه بحاجات وميول ورغبات التلميذ، وبالمشكلات التي تهمه. وقد لا يراعي مستوى نضج الطلاب وخصائص نموهم واستعداداتهم العامة والخاصة، والفروق الفردية. ويبدو أنه توجد أدلة على أن بعض المناهج في مرحلة التعليم العام تعاني من هذه العيوب ( الشيباني ، 1978: 146 ) . ومثل هذا سيؤدي الى ضعف ارتباط الطالب بالمدرسة، وبالمادة العلمية ، وبكل ما يتعلق بالنشاط الأكاديمي .
تقع على الأسرة مسئولية كبرى، في تعويد الصغير على الاهتمام بدروسه، وبالتالي تعويده على الاهتمام بالجانب الأكاديمي. فعلى الأسرة تقع مسئولية المتابعة بعد اليوم الدراسي. ولكي تنجح الأسرة في هذه المهمة، لابد وأن يؤمن أعضاؤها أولا بأهمية التعليم، وأهمية التفوق فيه ، والتعود على تقديم النصائح، التي تحض على المثابرة وعلى الاجتهاد . يرى البعض أن تعليم الوالدين شرط أساسي للقيام بهذا الدور على الوجه الأكمل. فالأم المتعلمة، والأب المتعلم، يمكنهما القيام بعملية مراجعة الدروس ومتابعة تقدم الطفل . وقد يكون هذا صحيحا الى حد ما . فتعليم الوالدين إذا اقترن بدرجة اهتمام عالية، لابد وأن ينعكس على تعليم الطفل بالإيجاب. كذلك يرى البعض أن الوضع الاقتصادي للأسرة قد يتدخل في كيفية تأديتها لمهامها . ويقول هؤلاء أن الوضع الاقتصادي الجيد، يتيح للأسرة فرصة توفير مختلف الإمكانات التي تهيء للطالب الجو المناسب للمذاكرة وتوسيع مداركه . ويأتي في هذا المجال ذكر الحجرة الخاصة، وما تحتاجه من معدات وأدوات ، والمدرس الخاص ، والمصروف الخاص المناسب لشراء كل ما يحتاجه الطالب. لا شك أن توفر إمكانات جيدة للأسرة عامل مهم، ولكنه غير كاف . فالإمكانات الاقتصادية الجيدة، إذا لم يصاحبها برنامج عمل مناسب، قد تنقلب من نعمة الى نقمة. فقد يدلل الطالب أكثر من اللازم، وفي هذا ضرر كبير له . كما توجد أدلة كثيرة ، ومن داخل هذا المجتمع ، على أن أبناء أسر فقيرة، وحيث الأب والأم أميان تفوقوا في التعليم معتمدين على أنفسهم اعتمادا كاملا. وقد استمر تفوقهم حتى عندما واصلوا تعليمهم في الخارج، ودخلوا في منافسة مع من حظوا بأحسن عناية وقد لعب كثير من أولياء الأمور الأميين دورا هاما في دفع الأبناء لمواصلة التعليم عندما ضحوا بكل ما عندهم لكي يواصل الأبناء تعليمهم . ومن جهة أخرى قد يعمد الوالدان لشغل ابنهما بعد عودته من المدرسة، بأمور أخرى تأخذه بعيدا عن دروسه ، وتجعل مواصلة تقدمه أمرا صعبا . وقد لا يستجيب الوالدان لرغبة الابن في المذاكرة ، وقد يسفهان حتى هذه الرغبة لديه فموقف الوالدين من العملية التعليمية يحدد الى درجة كبيرة اتجاهات الأبناء نحو العمل الأكاديمي.
تتعرض الأسرة الى هزات كثيرة، لعل أقساها ما يعرف بالتفكك الأسري النفسي والفيزيقي. فالأسرة قد تتواجد في مكان واحد، وفي داخل منزل واحد، ولكنه منزل يفتقد الى الحياة الأسرية الهادئة . فقد يكره الوالدان بعضهما، ويدخلان في صراع دائم، وقد يسود العنف العائلي جو الحياة الأسرية . لا يتوقع من أبناء هذه الأسرة الاهتمام بالعمل الأكاديمي إلا فيما ندر. كما قد تتفكك الأسرة بالطلاق، أو بموت أحد أو كلا الوالدين، أو بسفر أحدهما للإقامة بعيدا ولفتــرة طويلة، كما يحدث في حالات العمالة المهاجرة . الطلاق مسموح به ، ويلجأ اليه كثيرون، لذلك كانت معدلاته عالية. والأبناء هم الذين يتعرضون لأقسى آلام هذا الوضع غير الطبيعي، وينعكس سلبا على مختلف جوانب حياتهم، وخصوصا إذا حدث الانفصال في سنوات العمر الأولى، حيث يحتاج الطفل الى رعاية كلا الوالدين . وبالطبع يفترض هنا أن الحياة الأسرية كانت طبيعية قبل التفكك بالطلاق، أو بالغياب أو بالموت . لكن إذا لم يكن الجو الأسري طبيعيا، فقد يؤدي غياب أحد الوالدين الى تحسن الجو في داخل ما تبقى من الأسرة . فقد عرفت أسر أبا قاسيا أو معربدا، يتفنن في جعل جو المنزل جحيما لا يطاق . لاشك في أن غياب هذا الأب، سيغير من نمط حياة الأسرة، وقد يكون التغيير نحو الأفضل .
تتولى عدة نظم ومؤسسات وجماعات اجتماعية، مهمة تعليم الصغار قواعد السلوك في الحياة العامة، أو ما يعرف بعملية التنشئة الاجتماعية . ومن هذه واحدة تلعب دورا هاما وهي جماعة الأصدقاء . فالبنت أو الولد ينضم الى جماعة من نفس السن، يلعب معهم ويتبادل معهم المعلومات والأخبار، ويؤثر فيهم ويتأثر بهم . وفي المجتمع العربي بصفة عامة ، ولطبيعة التقاليد فان علاقات الذكر بجماعات الأصدقاء أكثر تنوعا من التي للأنثى. وتخضع الأنثى لرقابة أسرية مستمرة. كما تقع نسبة من أنشطة الطفل الذكر في خارج المنزل، وبعيدا عن المراقبة المباشرة للأسرة . حيث يشارك الذكر في الأنشطة الرياضية والترفيهية، بمعدلات تفوق كثيرا المسموح بها للأنثى . ولذلك يتوقع أن تشارك نسبة أكبر من الذكور في الأنشطة الاجتماعية، وفي تلك الأنشطة التي تأخذ جزءا من الوقت، وقد تقلل من اهتماماتهم الأكاديمية، عندما يقارنون بجماعة الإناث. ومع أن علاقات الصداقة بين نفس الجيل مهمة، إلا أنه يلاحظ أن الفرد يأخذ وبالنسبة لمجالات مختلفة نفس اتجاهات الجماعة. ويصدق هذا عند الحديث عن الموقف من النشاط الأكاديمي. فكلما انخرط الفرد في علاقات مع جماعات لا تقدر النشاط الأكاديمي تقديرا عاليا، أو تولي الأهمية الأولى للأنشطة غير الأكاديمية كلما انخفضت درجة تقديره لمكانة العمل الأكاديمي.
أفراد المجتمع الواحد بل أعضاء الأسرة الواحدة يختلفون في ميولهم ورغباتهم . وتلعب الميول والرغبات دورا هاما في نجاح أو فشل الفرد في دراسته . ففرصة نجاح الطالب الذي يتوجه نحو دراسة المجال الذي يرغبه، أفضل من فرصة نجاحه لو توجه لدراسة مجال معرفي لا يميل إليه. لاحظ هذا رجال التربية منذ زمن بعيد . لذلك وجدت ضمن مؤسسات التعليم، مكاتب تخصصت في معرفة رغبات وميول الصغار، وتقدم النصيحة للطالب ولولي أمره، بالتخصص المناسب . لا توجد في جميع أنحاء المجتمع العربي مثل هذه الخدمات . لذلك يتوجه الطلاب للمجال الدراسي كيفما اتفق، أو بناء على عوامل لا تستند الى معلومات مسبقة، حول الميول والرغبات . فالذي يحدث في أحيان كثيرة أن يتوجه الطالب للدراسة في المجال الذي يأمر به الأب، أو الذي تخصص فيه أصدقاؤه المقربون، أو الذي له سمعة خاصة. ففي أحيان كثيرة يتمنى الوالدان أن يتخصص ابنهما أو بنتهما في مجال معرفي معين، ولسبب يتعلق بهما شخصيا . قد يتطابق ذلك المجال مع رغبات الطالب وقدراته وقد لا يتطابق . وفي الحالة الأخيرة يكون دخول الطالب للمجال الدراسي بدون رغبته . ويحدث في أحيان كثيرة أن يكره الطالب مجال تخصصه، ويطور تقييما سلبيا له . ويتوقع في هذه الحالة إلا يطور اتجاها موجبا نحو العمل الأكاديمي. الامتحانات هي الوسيلة الوحيدة لتقويم العمل الأكاديمي للطالب، لينتقل من سنة دراسية الى أخرى، ومن مرحلة الى أخرى.











ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ثانياً: صور كاريكاتيرية للتعاليق
هذه بعض الصور الهادفة والمستهدفة تم عرضها من أجل التعليق عليها.
للمشاركة بالتعليق والرأي نرجو أن تضغط على "إرسال تعليق" في الأسفل 






ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نظرية تقسيم العمل
                                                            نظرية حماية المستهلك 
نظرية إدارة الأعمال أم نظرية أعمال إدارية؟

هناك تعليق واحد:

HAMZA يقول...

سلام عليكم : الطالب حمزة ضيافي

اعتقد انه لا بد من وجود تسيير عسكري ..للحد من هذه الظواهر التي هي في الحقيقة تعكس الخمول ..التواكل ....اللامبالات

نجح اسلوب الحوكلة ولم ينجح اسلوب الرقابة ؟؟......لماذا

مفهوم القمع التسويقي وأثره على نجاح حملاتك التسويقية

  قدمت العديد من الدورات التدريبية والمحاضرات في مجال التسويق الالكتروني وأعتمد دائما على ايصال فكرة القمع التسويقي ولاحظت ان اغلب ...